الحسد .. جذوره وعلاجه



الحسد ..  جذوره وعلاجه

            لكلٍّ منّا محاسنه ومساوئه .
            لكنّنا ـ أحياناً وكجزء من خلق المتاعب لأنفسنا ـ لا نفكّر إلاّ بمساوئنا ومحاسن غيرنا .
            هنا ، ننسى أمرين :
            أنّ غيرنا له مساوئه أيضاً ، وأ نّه ربّما يتمنّى أن تكون له بعضُ محاسننا .
            وقد ننسى أيضاً ـ ونحن نتطلّع إلى ما في أيدي الآخرين ـ أنّ المحاسن مكتسبة أي مثلها مثل أي شيء آخر يمكن تحصيله بالتمرين والتدريب والجدّ والاجتهاد .
            فكما كان لغيرك أن يسعى ويكلّل مساعيه بالنجاح ، لكَ أنت أيضاً أن تفعل الشيء نفسه ، إذا سلكت الطريق نفسه ، وحملتَ الهمّة نفسها ، وآمنت بتوفيق الله مثله .
            وتسأل :  ولِمَ هذا التفاوت بين الناس ؟
            هذا التفاوت له أسباب كثيرة ، منها :
            ـ  التفاوت في الإرادات والعزائم والهمم .
            ـ  التفاوت في كم وحجم العقبات والصعوبات التي تواجه كلاًّ منّا .
            ـ  التفاوت في درجة العلم والثقافة والمهارات .
            ـ  التفاوت في تقدير قيمة الأشياء .
            ـ  التفاوت في تحديد الآليات والوسائل الموصلة إلى الهدف .
            ـ  التفاوت في تحديد الأهداف .
            ـ  التفاوت في القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى .
            ولهذا التفاوت جانبان (ربّاني) و (ميداني) .
            فلقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يختلف الخلقُ والبشر في أشياء كثيرة حتى يتحقّق للبشرية الإثراء في هذا التنوّع والتعدّد والاختلاف . فلقد جعلنا شعوباً وقبائل ، وجعل الاختلاف في ألواننا وأجناسنا وألسنتنا ، مثلما جعل الاختلاف في طبيعة الأرض التي نعيش عليها ، والمياه التي نشربها ، والهواء الذي نتنفّسه . وقد يبدو في الظاهر أنّ هذا الاختلاف هو اختلاف تفاضل ، ولكنّه في واقع الأمر اختلاف رحمة وتعدّد من أجل خير عميم ، وقد ثبت علمياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً أنّ التعدّد والتنوّع ثراء .
            هل يحاسبنا الله على ما لم يعطنا ؟
            هذا خلافُ العدالة تماماً ، ولذا فإنّه لا يحاسبنا ـ مثلاً ـ على أشكالنا وألواننا واختلاف ألسنتنا ، وإنّما يحاسبنا على ما انطوت عليه قلوبنا وعقولنا .
            هل التغيير ممكن ؟
            نعم ، ممكن . فليست الولادة في أرض قاحلة قدراً لا يمكن للانسان أن يتخلّص منه ، وليس الجهل صفة ملازمة لا يمكن الفكاك منها ، وليس الفقر حالة مادية مكتوبة لا يقدر الانسان أن يحسّنها أو يتجاوزها .
            تقول أنّ العملية ليست ممكنة دائماً ، نقول نعم ، لأ نّه ليست الهمم واحدة فـ (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) كما يقول الشاعر . وقد تكون هناك عوامل وظروف قاهرة لكن تفاوت الإرادات هو العامل الأكبر في تمييز انسان عن انسان آخر ، أو شعب عن شعب آخر ، وهذا هو الجانب (الميداني) للتفاوت ، وقد أشرنا إلى بعض أسبابه العملية في المقدّمة .
            لكنّنا ـ في ظلّ التفاوت الأوّل والثاني ـ نرى أناساً لا يفهمون حقيقة التفاوت ، ويرجعون أسبابه إلى تصورات ذهنية خاطئة ، كأن يظنّوا ـ مثلاً ـ أنّ الله يحبّ صاحب النعمة ولا يحبّهم ، وأنّ نعمهُ سبحانه وتعالى لا تعرف الطريق إليهم ، وقد يقولون بوحي من هذه التصورات أنّ الله يمنح أو يرزق الأدرد ـ الذي بلا أسنان ـ جوزاً ، وما إلى ذلك . ولذا تراهم لا يطيقون رؤية صاحب النعمة ، وينقمون عليه ، ويتمنون أن يتجرّد من نعمته ويبقى أعزلَ منها .
            هؤلاء هم الذين نسمّيهم (الحسّاد) .
            فيومَ تقبّل الله قربان (هابيل) ولم يتقبّل قربان (قابيل) داخلَ الثاني شعورٌ طاغ بالغيرة القاتلة والحسد المشتعل المتصاعد كنار أكول ، فلم يتحمل رؤية أخيه أفضل منه ، أو أ نّه أقرب إلى الله تعالى منه ، فقرّر وبدافع من نيران الحسد في داخله أن ينتقم منه ، لأنّ رؤيته ماثلاً أمامه تذكّره بأ نّه أفضل منه ، فلم يهنأ له بال حتى أرداه قتيلاً .
            وحين رأى إخوة يوسف (عليه السلام) أنّ أباهم يتودّد لـ (يوسف) أكثر منهم لمزايا كثيرة كان يوسف يتمتع بها ، منها أ نّه رأى مناماً صادقاً فهم أبوه يعقوب من تأويله أ نّه سيكونُ ذا شأن عظيم . ورغم أنّ الأب طلب من الابن عدم التصريح بما رأى لإخوته ، لكنّهم قرأوا امتياز يوسف في وجه أبيهم ، فتحرّكوا ، أو قلْ حرّكهم الحسد العاصف إلى التخلّص من يوسف ليخلو لهم وجهُ أبيهم ، فلم يجدوا ، أو لم يفتح لهم الحسد من طريق سوى أن ينتقموا من يوسف البريء بإلقائه في البئر والادّعاء بأنّ الذئب قد اكله .
            هل (قابيل) و (إخوة يوسف) الحسّاد الوحيدون ؟
            طبعاً لا ، فما أكثر الحسد وما أكثر الحاسدين .

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

 
back to top