والسبب الأخطر في عصرنا ، عصر العلم والمعرفة
، الذي يمكن فيه الحصول على دراسـات ومعلومات تجنّب الإنسان مخاطر الجهل ، الأنانية
العمياء ، التي لا تبصر حتّى مصلحتها في حركة الجماعة ونشاط المجتمع ، وعطاء المشاريع
والجهد الجماعي ، خدمياً كان ، أو فكرياً ، أو اجتماعياً ، أو غير ذلك .. فكم من المتعلمين
والمثقّفين لا يمكن التعامل معه عند ما يكون عضواً في جمعية أو ناد ، أو حركة اجتماعية
، أو مؤسّسة خيرية أو ثقافية أو علمية أو مالية ، يتحوّل جهده ونشاطه وذكاؤه وقدرته
على التخطيط والإبداع إلى الاستحواذ الأناني ، وإلغاء الآخـرين ، وتحجيم دورهم ، فيتحـوّل
الجهد والعمل في داخل تلك المؤسّسة ، وذلك المشروع ، من عمل تعاوني ، ونشاط بنّاء ،
إلى هدم وصراع وتخريب ، واستهلاك للطاقة والجهد والوقت ، فيبدأ التآكل في المشروع والنشاط
والاستهلاك الذاتي حين تتحوّل تلك الظاهرة إلى مرض يستعصي علاجه .
وبالتالي تخسر تلك العناصر الأنانيـة جهدها ،
أو تخسر جهود الآخرين ، وتعجز عن إدارة العمل في المشروع الثقافي أو السياسي أو الخدمي
أو المالي ، أو يتحوّل المشروع والمؤسّسة إلى حالة شكلية وعنوان أجوف ، مفرغ من الحيوية
والنشاط ، وعاجز عن استقطاب الرأي العام وإسناد المجتمع المادي والأدبي ، وبذا يغلق
على نفسه آفاق النمو والتطوّر ، وتحقيق الأهداف ، ويضع الحواجز بينه وبين الآخرين
.
من مظاهر الأنانية
في حياة الإنسان :
وللأنانية مظاهر عديدة تتجسّد في سلوك الإنسان وأوضاعه الفردية والاجتماعية أبرزها :
أ ـ التفرّد بالرأي :
إن أبرز مظاهر الأنانية في العمل الجماعي التي
تعيق نجاح الجهد الجمعي هو الرغبة العارمة في الاستحواذ على الأعمال والمصالح والمنافع
ومجالات الظهور الاجتماعي ، والعمل على إلغاء الآخرين ، أو تحجيم حركتهم ، واعتبار
من يعمل معه خطراً عليه ، وليس مكملاً لجهده ونشاطه .
ومن مظاهر الأنانية الخطرة في العمل الجمعي ،
هو فرض الرأي الفردي على الآخرين ، ومصادرة آرائهم ، انطلاقاً من فهم خاطئ لنفسه ورأيه
، فيسوقه هذا الفهم إلى عدم احترام الرأي الآخر ، واقناع نفسه بأنّ الآخرين ليس بوسعهم
أن يفكّروا ، أو يخططوا ، أو يرتقوا إلى مستوى تفكيره .. بينما الموقف الصواب في العمل
الجماعي هو التكامل في الجهود الفكرية والمادّية والأدبية ، وفسح المجال أمام الطاقات
والآراء لتأخذ طريقها ، ولتوظف كلّ الطاقات والآراء في مجالها البنّاء .. وعندما تتشرنق
هذه العناصر حول نفسها تتحوّل إلى مشكلة داخل النشاط الجمعي ، فتنتهي بالعمل إلى الإعاقة
، أو التمزيق والانشطار أو الانحلال .
ويزداد الخطر عندما يتحوّل المشروع الخدمي والمؤسّسة
الخيرية والعمل ذو الأهداف الاجتماعية إلى مشروع نفعي ، ومغنم يتنازع على الاستحواذ
عليه . واستخدامه أداة للبروز الاجتماعي، وتحقيق المكاسب المادّية النفعية ..
والتحوّل من الهدف الخيري والإصلاحي العام إلى
الهدف النفعي ، هو من أبرز مظاهر الهدم والتخريب . والممارس لهذا العمل هو عنصر هدّام
ومخرّب .
انّه يمارس هدم الأهداف العامّة ، ويحولها إلى
أهداف ومنافع شخصية ، إنّ الأنا الفردي عالم قائم بذاته .. أحاسيسه ومشاعره ، لذّاته
وآلامه ، أفراحه وأتراحه .. حبّه وبغضه ، مصالحه ومضارّه .. يتحرّك الأنا وكأ نّه وحيد
في عالم الموجودات ، لا شيء غيره ، بل لا يريد أن يرى أحداً ينافسه في شيء ، بل ويسعى
إلى أن لا يشاركه أحد .. لو استطاع أن يقبض على الأرض وما حَوَت ، والفضاء وما اشتمل
عليه لفعل ..
الأنانية استغراق مرضي في حبّ الذات .. يعبر
الإنسان المصاب بمرض الأنا (الأنانية) عن هذا الشعور بطرق شتّى ، وبأنماط متعددة من
السلوك ، كالاستئثار بالمال وكالحسد والحقد وحرمان الآخرين ، ووضع العقبات أمامهم ،
لئلاّ يتقدّموا في الحياة .. وكم تركز اهتمام الدراسات النفسية على هذه الظاهرة الخطيرة
، وأثرها الهدّام في السلوك ..
الإنسان الأناني يمثِّل حالة مرضية في الحياة
الاجتماعية .. ولذا عملت التربية الإسلامية على تحرير الإنسان من الأنانية ، عبادة
الذات ، وتصحيح سلوكه على أساس توازن العلاقة بين الأنا وذات الآخرين ; لتتوازن الحياة
الاجتماعية .. وكم هو دقيق القانون الأخلاقي الذي ثبّته الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) كأساس لبناء السلوك .. في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لا يؤمن أحدكم حتّى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه» .
إنّ هذا القانون الأخلاقي يقوم على أساس عقيدي
وإيماني .. فالإيمان في حقيقته كما يوضِّحه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)
فكراً يتجسّد سلوكاً اجتماعياً في حياة الإنسان ، وليس الإيمان عقيدة نظرية ومسلمات
تجريدية فكرية . فالإيمان الحقيقي لا يتحقّق في حياة الإنسان إلاّ إذا أحب للآخرين
ما يحب لنفسه ، وكره لهم ما يكره لها ، عندئذ يتحرّر من الأنا وعبادة الذات ، ويفكِّر
في مصلحة الجماعة ، ويندمج معها ، وتتوازن في نفسه وعقيدته وسلوكه مصلحة الذات مع مصلحة
الآخرين .. ولا تقف التربية الإسلامية والسلوكية الإيمانية إلى حدّ الموازنة بين مصالح
الذات ومصالح الآخرين .
بل وتتسامى الدعوة الأخلاقية في الإسلام إلى
أن تربِّي الإنسان على الإيثار .
والإيثار هو تقديم الغير على النفس ، وإلى هذه
السلوكية دعا القرآن الكريم بقوله : «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» .
وكم أثنى القرآن على الإمام علي وأهل بيته (عليهم السلام) عندما تصدّقوا بطعامهم على اليتيم
والمسكين والأسير ، وظلوا هم من غير طعام ، مع حاجتهم إليه .
جاء ذلك في قوله تعالى :
(ويُطعمونَ الطّعامَ على حُبِّهِ مِسْكيناً ويَتيماً
وأسيراً * إنّما نُطعِمُكُم لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكُم جَزاء ولا شكوراً ). ( الإنسان / 8 ـ 9 )
ولأهمّية الإيثار في السلوكية الإسلامية نرى
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذِّر الناس من الأثرة والاستيثار من بعده فيقول
: «سيكون بعدي أثرة» .
ب ـ الجشع المادّي والدكتاتورية السياسية :
نلاحظ مظاهر الأنانية في الحياة الاقتصادية تتجسّد في سلوك ذلك الإنسان الجشع المستأثر عندما يحتكر الطعام والدواء والسلع التي يحتاجها الناس ليضطرّهم إلى رفع الأسعار وامتصاص دمائهم .. أو عندما يقرّر المستوى المتدنِّي من الاُجور للعاملين معه والتابعين لأعماله ومشاريعه ..
انّه إنسان يعاني من عقدة مرضية تدفعه نحو هذه
الممارسة العدوانية على قوت الناس وجهودهم وضرورات حياتهم ، لذا حرّم الإسلام الاحتكار
قانونياً ، وألزم السلطة بإجبار المحتكر على البيع بأسعار معقولة اقتصادياً ليحمي المجتمع
من شرور هذه العقدة الأنانية وأمر بالعدل ، وان لا يبخس الناس أشياءهم ، فيعطى العامل
والمنتج الذي يقدِّم الخدمات ما يناسب جهده وقيمة عمله ..
ومرض الأنانية هو الدافع نحو السلوك الدكتاتوري والعدواني في عالم السياسة ، وقمع الآخرين والاستحواذ على مقدّرات الحياة السياسية .. والأناني لا يضحي بشيء ، ولا يشارك في الحياة الاجتماعية إلاّ إذا قدّر أن يكون له من الربح أكثر ممّا يعطي الآخرين .
وكما في الإسلام تربية أخلاقية على الإيثار وحبّ الخير للجميع ، ففي الإسلام تكاليف وتشريعات قانونية تضحوية تخرج الإنسان من دائرة الأنا الفردي إلى التفكير بمصلحة الجماعة ، ولو كلف الإنسان التضحية بمصلحته الشخصية ، بل اعتبر الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)من لم يفكر بشؤون المسلمين، ولم يهتم بأمورهم ، فليس منهم .. إنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يسلب صفة الإيمان الحقيقي من اُولئك الذين لم يهتمّوا ، ولم يفكِّروا بمصالح المجتمع ..
جاء ذلك في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «مَن أصبح لايهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم» .
من أمثلة التكليف القانوني لخدمة الجماعة هو
واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووجوب الدفاع ، حتّى وإن كلفه ذلك حياته ،
ووجوب إنقاذ الآخرين مع القدرة من الكوارث والمخاطر التي تهدِّد حياتهم أو كرامتهم
. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من ردّ عن قوم من المسلمين عادية ماء
أو ناراً ، وجبت له الجنّة» .
قال الله تعالى :
(وما لَكُم لا تُقاتلونَ في سبيلِ اللهِ والمُسْتَضعَفينَ
مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والولدانِ الّذينَ يقولونَ رَبّنا أخْرِجنا مِن هذهِ القريةِ
الظّالِمِ أهلها واجْعَل لَنا من لَدُنكَ وَليّاً واجْعَل لَنا مِن لَدُنك نَصيراً
).
( النساء / 75 ) .
ومثل هذه المهمّة قد تكلّف الإنسان حياته وماله وراحته ، وتجلب عليه الأذى والاضطهاد ، من السجن ومصادرة الأموال والتشريد ، وتعكير صفو الحياة ..
وكم أقدم المصلحون على تحمّل تلك التبـعات برضى وتضحية مؤثرين إصلاح المجتمع ومقاومة الظّلم والفساد وراحة الآخرين ، في حين يكونون هم الضحيّة التي تتحمّل المشاكل والأذى والتضحية بالمال والنفس والراحة ، استجابة للتكليف الشرعي الذي أوجبته الشريعة الإسلامية .. وهذه التضحية والإيثار والانتصار على الأنا له ما يقابله من عوض ، وهو الجزاء الاُخروي الذي يرجوه المؤمنون بالله وبعالم الآخرة .. انّ الضمانة لحل أزمة الصراع بين مصالح الذات والأنا من جهة، وبين مصالح المجتمع وإحداث التوازن النفسي والاجتماعي من جهة اُخرى ، هو الإيمان بالله وبالجزاء الاُخروي .. وكلّما ازداد تخلي الإنسان عن الأنانية والأثرة ، وترسخ في نفسه مفهوم الإيثار ، وتقديم مصلحة الآخرين ، ازداد مكسبه الذاتي ممّا أعدّ الله سبحانه للمؤثرين على أنفسهم في عالم الخلود والبقاء .. يوضح القرآن هذا العوض بقوله :
(وما تُقدِّموا لأنفُسِكُم من خَير تَجدوهُ عندَ
اللهِ هُوَ خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إنّ اللهَ غفورٌ رَحيم ). ( المزّمِّل / 20 )
وهكذا يكون التخلّي عن الأنانية طريقاً إلى تحقيق
أرقى المكاسب للذات ، ولكن في عالم آخر .. وليس هذا فحسب ، بل وفي الحياة الاجتماعية
اليومية تعطي هذه السلوكية ثمارها .. عندما تسود هذه الروح ، ويفكِّر الجميع في مصلحة
الآخرين وإيثارهم ، تحدث حالة التوازن بين الفردية والمصلحة الجماعية . ويعود النفع
على الجميع ، ويتخلّص المجموع من الطغيان الفردي والأنانية والاستئثار .
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire